د. نهلة عيسى
رأسي يسندها الضجر, والتلفاز شبيه الجدات, ثرثرة بلا انقطاع, عما كان, وعما صار, وعن الحاضر آخر الزمان, حيث لا عنترة يقاتل
لأجل عيني عبلة, ولا الزير ثائراً لدم كليب, ولا طارق بن زياد يراهن رهانه الأخير على الرجال, بل الحجاج سيد الشاشات يعتلي كل المنابر, ويلوح بالسيف فوق الرقاب, متفرعناً, متفرداً, مهدداً, بلا رجع صدى, وعبثاً ينادي, إذ لا حياة لمن يتوعد, فكلنا بلا رقاب, أسماء مكتوبة في صفحة الردى, معلقة على جدران البيوت تستجدي الترحمَ!.
رأسي يسندها الضجر, والتلفاز ينتقل من إعلان إلى مجزرة, والإعلانات وفيرة والمجازر كثيرة, والبشر سلعاً تباع في كلتا الحالتين, والخبراء ببزاتهم الأنيقة يحللون, ويشرحون, ويتكهنون, ويختلفون, ووجوههم يركض في عيونها الخواء والمعادلات والآلات الحاسبة, ونبراتهم تبدو مكيفة الهواء, فتفوح من التلفاز رائحة حشيشة الكيف, فأترنح وأهلوس: تراني في قادم الأيام بطلة إعلان أم مجزرة!؟.
رأسي تسندها الثرثرة, والقنوات التلفزيونية تخوض فيما بينها “حرب اللطافة”, لكن بلا طرافة, لسرقة المشاهدين “السلع” وبيعهم للمعلنين, مكرسة اهتمامها لتنقل لهم آخر أخبار إنقاذ الجرذ البري, والفقمة القطبية, والقرد الأحمر, واللقلق الوردي, وعدد من بقي على قيد الحياة في اليمن “السعيد”, لأن عدد من ماتوا عسير الهضم, والإعلانات تقول: لا تتوتر, الخيارات كثيرة, ولماذا تدفع أكثر إن كان ممكناً أن تدفع أقل؟ والأخبار شيء يشبه السيرك, عرض سياسي بين أخيار وأشرار, والمضحك حد الفجيعة, أن الأخيار على شاشة, قتلة على أخرى, والأشرار على شاشة, ثوار على أخرى, وليس مطلوباً منك أن تفهم, ولا أن تتحزب, فقط تفرج, ففحيح التلفاز يخبرك أن البشر ليسوا السلع الوحيدة في أوطاننا, فالخيارات كثيرة, والحرب في بلدي تتجاوز السابعة من عمرها على شاشات التلفاز علناً, والإعلانات تزيد!.
رأسي تسندها الثرثرة, والتلفاز منطقة من الجنة تدور فيها حكايات من الجحيم, مدينة “صدق أو لا تصدق” المدهونة بطلاء الأظافر, بلا أرصفة,ولا صباح ولا مساء الخير, أشبه بأرملة فكتورية عجوز, فيما يبيح وما يحرم, هذا صواب, هذا خطأ, كالطفل يوهمك التلفاز بأنه يقودك من باب البيت إلى باص المدرسة, وفي الحقيقة يقودك في رحلة للنميمة أو للبصبصة, فتصيبك الحيرة: هل ما يدور على الشاشة أمامك, حقاً يدور؟ هل هذه حرب, أم مجرد تمثيل؟ هل هذا قاتل أم قتيل؟ هل هذه حملة لحماية الخفافيش من الانقراض, أم حملة لتصدير الخفافيش إلينا, أهذا مؤتمر للكبار, أم مجرد مسرح يمثل فيه الصغار أدوار الكبار؟
رأسي من جديد يسندها الضجر, والأساطير على شاشة التلفاز تسدد الفواتير, حيث اللاشيء, اللا مكان, اللا أحد, اللا مسافات بين البشر والحجر, مسيرة نمل, وطوابير دود, ومغاور توهم بالدهشة, وتجار وطنيات وطائفيات, كالطواويس تنشر في وجهك ذيلها الملون, وأنت كالمحارة الحية عصروا عليها بعض الليمون, يحوم الموت فوق رأسك, فيجبرونك على معانقته, فتقول لنفسك: هذا غير معقول, وحين تخرج إلى الشارع تجد ما ليس معقولاً يحدث!.
رأسي يسندها الوجع, وكل ما على الشاشات نوافذ مرسومة بالزجاج فوق الزجاج, هراء يرافق الهراء, مباريات كرة قدم وأخطاء الحكام فيها, كلام مطلق, وعين السخط عن كل جميل كليلة, وبشر تنفعل ولا تتفاعل, وأشجار تبدو متحفظة, وحقائب كبيرة محشوة بالأرقام وصرخات الاستغاثة, وثقافات تهمين وتستبد, تدمر البشري فينا, وتحرضنا على هستيريا الهرولة, وقضم تفاحة البلاهة, ورفع اليد بالتحية لجنود “المارينز”, وكأننا في الخدمة العسكرية الانكشارية!.
رأسي يسنده الوجع, واللغة والصور على الشاشات آلة حرب بلا رشد, توزع المسميات والألقاب على كيانات مُخلقة مشوهة وهجينة: هذا مجلس وذاك جيش, وهذه أيقونة, وتلك نكرة, ونتابع نحن المجريات جلوساً أمام الشاشات, وصوت الصواريخ الأمريكية, والمدافع التركية, والخروقات الصهيونية, والتصريحات الرسمية العربية, يحوم فوق رؤوسنا, ويقتلنا جماعياً, دون الحاجة لقائمة اتهام, ولا لمحامين, ولا أساتذة لغة عربية, يفسرون لنا, لماذا تصبح اللغة عويصة, بينما الموت سهل!؟.