المعنى الاشتقاقي لكلمة “تربية” في أصلها اللاتيني هو “غذّى أو رقّى أو قاد إلى”، وتدل على تغذية الطفل ماديا ومعنويا وقيادته نحو النضج، بالتالي الانتقال به من المستوى البيولوجي إلى المستوى الاجتماعي.
وتبدأ عملية التربية داخل الأسرة التي تعتبر أول مؤسسة اجتماعية حيث يكون فيها قائدان هما الأب والأم، هنا تكمن الأهمية التربوية والثقافية والتعليمية التي يقودها الأهل ليكون مفادها تنشئة الابن بطريقة صحيحة من جميع النواحي، وتبدأ منذ طفولته حتى مراهقته وصولاً إلى نضجه واعتماده على ذاته في مواكبة حياته بجميع مناحيها.
وقد جاء في التوصية رقم 27 من إعلان المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية الذي عقد بإشراف اليونسكو في عام 1982: “إن الثقافة تشكل جزءا جوهريا من حياة كل فرد وحياة كل جماعة وأن التنمية التي يجب أن يكون هدفها الأول منصبا على الإنسان، يجب أن يكون لها بعد ثقافي”.
بالتالي بدون تربية لا يمكن الحديث عن الغد مما يعتبر دليل على العلاقة القائمة بين تنمية المجتمعات والتربية أو الثقافة، كما إن الأطفال في كل أمة يشكلون نصف الحاضر وكل المستقبل، وجميع الجهود يجب أن تنصب على عملية التنشئة الاجتماعية التي مفادها العمل للمستقبل، إذا الوضع المستقبلي للتنمية يتوافق تماماً مع عملية التربية، وهذا ما يسعى إليه الوالدان بالفطرة ليكون لدى أبنائهم مستقبل يؤتمن عليهم فيه.
تقول الأم بشرى صالح: “إن المؤسسة الأولى التي تعنى بالطفل في الحياة هي الأسرة، بالتالي يجب أن تكون الملاذ الآمن له من جميع النواحي النفسية والاجتماعية والتربوية والتعليمة وغيرها، فمن خلال التربية تستطيع الأم أن تعلم وتثقف وتوجه الطفل إلى الصح ونبذ الخطأ.
كما يبرز دور الأسرة الأقوى في المرحلة التالية للتنشئة وهي المرهقة، سيما أن الابن يكون في حالة سيكولوجية متخبطة تؤثر على قراراته ومعارفه مع مواكبة تغير الجسم سيكولوجياً ونضوجاً، هنا تكمن أهمية الأهل ووعيهم بإتباع سبل صحيحة لتعليم وتوعية الأبناء”.
ومن الأساليب التربوية التي تستخدم في بيئة التعلّم من أجل التنشئة:
–التفكير الناقد: من خلال استخدام المجلات التعليمية والمجموعات النقاشية.
–التفكير والتحليل المنهجي: عن طريق استخدام دراسات الحالة في العالم الحقيقي والحوادث الحرجة والتعلم القائم على المشاريع، وأنشطة التحفيز وغيرها.
–التعلّم التشاركي: من خلال التركيز على التعلم الجماعي أو النظير، وتطوير الحوار، والتعلم “التجريبي، التعلم القائم على البحث، التعلم من أجل العمل”، وتطوير دراسات الحالة مع مجموعات المجتمع المحلي وقطاع الأعمال.
–التفكير الإبداعي: عن طريق استخدام تمثيل الأدوار، والاستكشاف في العالم الحقيقي، ورؤية العقود المستقبلية، والتعلم القائم على حل المشكلات وغيرها.
–التعلم التعاوني: من خلال شرح التعلم القائم على العمل، وشرح مفهوم الاستقصاء المشترك.
يقول الأب محمد سليمان: “بالنسبة لي إن أهم ما يمكن أن أمنحه لأبنائي بعد تلبية حاجاتهم الحياتية واليومية هو منحهم الثقة وجعلهم في طور التكامل الفكري الذي بدوره يمنحهم القوة في اتخاذ القرارات الصحيحة، وهذا لا يأتي عن عبث بل هو وليد المتابعة لأحوالهم، وخلق ظروف أسرية آمنة لهم، كي يكون لديهم القوة لسرد أسرارهم.
بالتالي تلعب الثقة دور التوجيه والتحكم الغير مباشر بهم، ولا بد أن كل والد يطمح أن يكون أبنائه الأفضل في جميع مناحي الحياة، هذا يكلف الوالد الكثير من الوقت مع الأسرة والتعب والمثابرة باحترام الحصول على الممتلكات وتطوير موهبة الأبناء، إضافة للتعبير عن الحب قولاً وفعلاً لكي يصل الأبناء إلى آخر مراحل تعليمهم وبداية عملهم“.
معظم الآباء يريدون أشياء مشتركة في أطفالهم فعندما سُئِل آباء من ثقافات مختلفة عن الصفات التي يريدون تربية اطفالهم عليها كانت الاجابات كالتالي: ” تحمّل المسئولية والاعتماد على النفس، القدرة على التمييز والاختيار الجيد، الحصول على تقديرات مرتفعة في المدرسة، القدرة على حل المشكلات، التعاطف والإحساس بالآخرين، الصحة الجيدة، الثقة بالنفس، وشغف التعلم والتفكير“.
يوجد في بعض الأسر حالات غير صحية جسدياً أو نفسياً، بحدوث مرض لدى أحد الأبناء، هذا يعني مضاعفة مسؤولية الوالدين تجاه الحلقة الأضعف بين أبنائهم للنهوض به وخلق عالم خاص له يتشارك فيه مع من يشبهه من الحالات الاجتماعية، بالتالي يكون الجهد في أعلى مستوياته اللحظية سواء على سبيل تأمين العلاج المناسب أو المتابعة الفكرية والنفسية للطفل المريض.
تقول الأم حنان معروف: “أنجبت طفلتين توأم، وخلال انتقال الحالة الفكرية والتنموية لديهم من مرحلة اللاوعي إلى مرحلة الوعي بدأت ألاحظ على إحداهن تخبط عشوائي في الحركة وسرد الأفكار وأنواع الاهتمام لديها، الأمر الذي دفعني ووالدها إلى لقاء طبيب والكشف عن حالتها، وعندما أخبرنا الطبيب أنها مصابة بمرض التوحد، شعرت أن الحياة انتهت بالنسبة لي، ووقعتُ في حالة كآبة كانت صعبة جدا.
لكن مسؤوليتي تجاهها كانت أكبر من الحالة النفسية المزرية التي أمر بها، وتفوّق حبي لابنتي على حبي لنفسي، فتمالكتُ أعصابي باحتضان إنساني وأخلاقي وفّره لي زوجي كي أكون أقوى مع مصاب ابنتي، وبدأت بدراسة مرض التوحد من جذوره حتى آخر ما توصل إليه العلم به، ايضاً تابعت جميع الندوات الطبية والصحية والنفسية التي تعنى به.
حتى تكون لدي الإدراك الكامل لحالة ابنتي بداية من أول حبة دواء وصفها الطبيب لها حتى سبب آخر حركة يد عشوائية تقوم بها، الأمر الذي تطور إلى سعيي الكامل مع والدها لخلق بيئة مناسبة لها ودمجها مع الحالات التي تشابهها بإلحاقها في معاهد مختصة، وتعليمها ومتابعتها بدقة لتطوير نموها الفكري، هكذا تغلبت على حالتي النفسية وعززت أملي بمستقبل أفضل لابنتي حتى آخر مراحل عمرها”.
أما الأساليب التي يمكن اتّباعها لدعم الأبناء فتتلخص في:
–الاهتمام بتقوية العلاقة بين الوالدين والطفل وتنمية الضبط الذاتي والتوجيه الشخصي للسلوك وتعويده رؤية الأغراب ومجالستهم.
–العمل على تنمية الضمير والسلوك الخلقي عند الطفل وتنمية ثقته بنفسه وتشجيعه على تحمل المسؤولية.
–الابتعاد عن أساليب التسلط والسيطرة والضغط والقهر مقابل الثبات والاستقرار في معاملة الطفل.
بذلك تتطور قدرة الطفل على التواصل الاجتماعي وتحقيق طموحاته بالنجاح وتخطي مراحل عمره بإثمار “عملي، علمي، تربوي، ثقافي، وتنموي”.
وقد نوّه الاختصاصي في علم الاجتماع محمد نصور بالقول” من المعروف جيداً أن الفرد يولد كائنا بيولوجيا تماما ويعتمد على صفاته وقدراته البيولوجية، ولكنه من ولادته يحتك بالآخرين ويكتسب بالتدريج صفاته الاجتماعية من خلال ذلك الاحتكاك او التفاعل مع عاداتهم وسلوكهم وطرق حياتهم.
وتسمى هذه النقلة من كائن بيولوجي الى كائن اجتماعي عملية التنشئة الاجتماعية، أو عملية ادخال الفرد في الجماعة، وهي عملية تقوم على التفاعل بين الفرد والمجتمع، يصبح الفرد في نهايتها مستهلكا ومنتجا لثقافة مجتمعه.
ومن أول مؤسسات التنشئة الاجتماعية هي الأسرة، فالتنشئة الأسرية هي من أهم العوامل الكامنة وراء أي نجاح واخفاق تعليمي لاحق لأبنائها، وهذا ليس نتاج الأسرة وحدها فحسب بل عدد كبير من العوامل كجماعات الأقران والثقافة العامة ووسائل الاعلام والمدرسة وغيرهم من المؤسسات الاجتماعية فضلا عن جهد الفرد نفسه.
ولكن بما أننا هنا مهتمون بالأسرة وعملية التنشئة التي تقوم بها وتأثيرها على تعليم أفرادها فانه يمكن القول ان وجود الطفل فيها يتأثر باتجاهات أهله وسلوكهم ويؤثر هذا الوجود على عمله في المدرسة أيضا“.
الزميلة غانيا درغام