بعد الكم الهائل من ردود الأفعال على كلامي الذي قلته في حديثٍ إذاعي سابق وكنت في معرض الحديث عن الضرورة اللازمة والوطنية لإعادة البناء عبر النظر في الكثير من المفاهيم التي تربينا ونشأ وعينا عليها، وكذلك ارتسمت من خلالها شخصيتنا الوطنية ومنها مفاهيم جاءت من تاريخ عربي وإسلامي حافل وطافح وكبير، وله من الضخامة ما يجعلنا نعترف بصعوبة الخوض فيه من دون مساءلات من هنا أو هناك أو اتهامات أو تأييد من هذا الطرف أو ذاك!
حتى يمكن النظر إلى هذا التاريخ وكأنه متاهة يضيع فيها المرء لكثرة المراجع واختلافها بل كثرة تناقضاتها وتناقض رواياتها مع كل فترة وكل زمن وكل قبيلة وكل دولة أو دويلة أو إمارة أو خلافة، نشأت وبادت أو انهزمت أو انتصرت.. أو.. أو.
وبعد كل ذلك الغضب الذي تم فيه إثارة الشارع على كلامي الذي اقتطع منه ما يلزم كما أراد ناقلوه عبر وسائل التواصل الاجتماعي (علماً بأنني لست من رواده)، واعتبروا كلامي يحمل نوعاً من التعريض والتعرض المقصود لرمز، وكأنني أستهدفه من دون سواه أو من دون هدفٍ أهدف إليه من وراء رأيي الذي كنت بصدد شرحه وتوضيحه، أجد نفسي الآن أمام نتائج لابد من قراءتها والتصريح عن رأيي بها بما يلي:
بدايةً ومع كامل الأسف كانت النتيجة الأبرز تميل لمصلحة كفة الغضب الرافض برعونة ولم أفهم من ورائه رأياً يمكنني من التقييم والمحاكمة أو الحوار، وهذا بحد ذاته وضعني أمام امتحان حقيقي مع الناس الغاضبة أو التي أُستغضبت وتم إغضابها علي فوضعتني في أحرج موقف لي في حياتي. إذ لابد ولامناص ولامراء لي إلا أن أتلقى بصدر مفتوح وشجاع ورحب كل هذا السيل الجارف من الغضب لرأيٍ قلته في رمز (وإن بدا مبتوراً)، وهنا أجد نفسي شجاعاً في الانحناء محترماً هذا الغضب العاصف.
وإن تطلب الأمر اعتذاراً فأنا صاحبه وغضب الناس جدير بانحناء الجميع له من دون شك، ولابد من التنويه الأكيد بأنني لا أدعي الاختصاص ولست باحثاً أو كاتباً أو مؤرخاً بل أنا مجرد قارئ ودارس للتاريخ في الجامعة، وبذات الوقت متابع وصاحب فضولٍ ساخن يأخذني لكل المطارح الممنوعة على المعرفة والتداول، ومذ كنت طالباً كنت كارهاً كل ما يمنع وأعتبر كل ما يُمنع عني إنما يمنع عني المعرفة كما يمنعني عن التفكير بحرية ويمنع عني المستقبل الذي سيبنيه على هواه كما بني التاريخ أيضاً على هواه.
انقسمت الآراء واختلفت في هذا الشأن وكنت أتابع ذلك بعيداً عن صخب المواقف الرافضة أو المؤيدة، واضعاً نصب عيني البحث عن رأيٍ يفيد ويحقق نجاحاً للمناقشة أو الحوار المثار من دون عصبية أو إلغاء للآخر!
ولابد من الاعتراف بأن ما سمعته من همس ونصائح وكلام بقصد مواساة الموقف كان يزعجني ويضعني في حرجٍ مضاعف أمام هذا الموقف الذي لامناص من جلائه قبل أي اعتبارٍ آخر.
قرأت للكثير من الآراء رفضاً وتأييداً وأعيد التذكير هنا بأن ما قلته لم يكن حول رمزٍ بحد ذاته (؟؟)، بل حول مشكلة إضفاء القداسة والمنع على كل الرموز التي شكلتنا ومنعت عنا استجلاء حقائق قد تفيد أكثر إذا ما فتحت صفحات تلك الرموز وأتيحت للنشء المتوالد تباعاً من أجيال أن يطلع ويفكر ويحلل ويستنبط بنفسه النتائج من دون حفظ ببغاوي أو تلقينٍ مسبق بلا هدف سوى الحفظ نفسه، أفلا نعيد بذلك تشكيل شخصيتنا ونمنحها المنعة والقوة والانتماء من دون وراثة غبية؟
وخصوصاً مع هذا الصراع القائم فينا وعلينا ومن كل قوى الأرض قاطبة!
وأضرب مثالاً على ذلك شخصية (صلاح الدين الأيوبي) وهي لبُ السخونة الناشئة في هذا الحوار المتشظي والذي يزداد تشظياً من دون بوصلة منطق تمسك بزمامه! وأرجو ألا يحتكر أحد كامل المعرفة لهذا الرمز لأنني كغيري من السوريين نشأت وتربيت وتشكل وعيي وبعض من شخصيتي على هذا الرمز، وهو بطل تاريخي احتل مكانته من دون تدليس أو تزييف أو استعارةٍ لمنجز ناجز أو نصرٍ مشهود أو.. أو.. ممن حفلت بهم بعض صفحات تاريخٍ كُتب بغير لغة! وهو ما زال سيفاً وفارساً وباني صرح دولة ممتدة عجزت عن تحقيقها خلافات شاخت وهرمت في زمنه و.. و.. ولن تتسع الكلمات للإلمام والتعداد والإطناب والمديح والتقريظ و. و… و.. الخ.
لكن الفهم يستوجب الإحاطة والنظر بكل ما هو متاح للمعرفة وليس حكراً على إشادة يمكن إكساؤها بلبوس غير مناسب للعلم والتحليل والاستنتاج الحر.. فالتاريخ لم تستوجب قراءته يوماً أن نقوم للوضوء قبل الاطلاع.. وهو ليس كتاباً للترتيل بقدر ما هو صنيعة بشرية تحتمل الجدل والشك واليقين وعكسه. وأعتقد حازماً وجازماً بأن ذلك الأمر بحد ذاته هو واحدٌ من أهم أسباب تخلفنا وتراجعنا المستدام بكل أسف وسيستديم بأسف أكبر إذا ما بقينا أسرى لكل قراءة خائفة لحقائق أو أحداث أو معلومة أياً تكن.
ونزع القداسة ليس كفراً بالرمز بل هو مفتاح حقيقي وعلمي لإعادة اكتشافه، كما هو مفتاح لاحترام عقلنا حين نقرأ عنه ونعيد فهم ماضينا فنتماهى مع حقائقه التي تدعونا لتحمل مسؤولية ما هو واجب علينا تجاه تاريخ لانقرؤه للتغني والتمجيد المكرر الملحن فقط على طريقة مبتكري الممنوعات والمدافعين عن تكريسها وتحفيظها وتلقين عبرها ومواعظها (!!).
أسفت لبعض آراءٍ ناصرتني وأحترمها كما أسفت لبعض آراءٍ خالفتني وأحترمها إذ لم أصل من كل ذلك إلى نتيجة واضحة سوى الانقسام الذي لا يحترم فيه الخصوم فكر بعضهم بل يسعون لإلغائه وإلغائي بطريقهم، وأسفت أكثر لمعركة كهذه يريدني البعض فيها (بطلاً) كما يريدني البعض الآخر (ضحية)..
لم ولن أكون بطلاً لمعارك كهذه يحتل جنباتها التشنج والغضب المنفلت من دون تعقل سواء لهذا الطرف أو لذاك.. كما لن أكون ضحية حتماً.. وأجدني أقرب للاستقالة من معارك كهذه نستطيع أن نرى نهايتها ونتائجها رؤية العين قبل بدايتها، فلا شيء سوى الاختلاف الغاضب وإقامة المحاكم على كل رأي وكل تصريح وكل مداخلة ومن دون أي حوار أو نقاش أو على الأقل تبادل للرأي أو المعلومة!
ولأنني سوري قبل أي شي آخر فإنني معني باكتشاف المزيد من غنى هذا المفهوم السوري الضارب في أعماق التاريخ بتنوعه العرقي والإثني والديني والطائفي والقومي و… و.. على حدٍ سواء، وسأبقى فاتحاً لصفحات تنوعه واختلافه ومطلعاً على كل من شارك في بنائه ومنعته، وقناعتي سيحددها تفكيري ومحاكمتي فقط من دون تلقين وإملاءٍ مسبق، فلا بناء من دون معرفة ولا قوة أيضاً من دون ذلك.. فإن كنا نأمل للأجيال قوة وبأساً فلنتح أمامهم كل المعارف وليخرجوا بمعرفةٍ تزيد منعة انتمائهم بل اعتزازهم بالانتماء نفسه أيضاً لأن الانتماء اختيار وليس إملاء ووراثة أو تركة إرث يمكن الطمع به من عدمه.
ولن يعيب أي رمز أن تفتح صفحاته مهما كانت، فعيب المنع أكبر من أي عيب آخر بل سيخفي في جنباته المزيد من الظنون والشك ليس إلا!
عدا ما سنحصد من وراء ذلك المنع من إنتاج أجيالٍ قادرة على الحفظ والاستظهار من دون تبنٍ لقناعة أو فكر أو ثقافة، ونكون بذلك أشبه برب الأسرة الذي لا يخطئ بنظر أولاده على الإطلاق وهو يستمر في إثبات صنميته أمامهم على الدوام حتى يخرجوا إلى الدنيا وقد امتلؤوا بكل الأسئلة المحظورة داخل رؤوسهم وحدها ومن دون أن يقرؤوها في وجهه… فقط لأن رب الأسرة هنا حامل ووارثٌ للحفظ من دون قراءة واطلاع وتعب، ولا يملك إجابة على تلك الأسئلة لأنه كان من الحفظة وتم تلقينه بما هو مطلوب فقط.
لن يفتح بابٌ للمعرفة من دون إحترام لكل الأسئلة ومهما كانت جريئة..
فالامتحان في الإجابة والمعرفة وبكل جوانبها المحيطة والمطلوبة..
هل من الخطأ أن نعيد بناء النفس..؟
(كسوريين) تحديداً
ومتنوعين بتحديدٍ أكثر
وخاصة في هذه المرحلة الطافحة بحساسية واستحقاق السياسة والاحتراب والدمار والتفرقة وإرهاب التكفير باسم الدين وما أسفرت عنه الحرب علينا من اختلال واختلاط وامتزاج وزحام أفكار غريبة عن النسيج المستحق في المجتمع السوري الطافح بالتنوع..!
سنخطئ إذا ما أبقينا الحصانة من دون ولوج لاستحقاقها وسنساهم في ارتكاب أبشع الجرائم بحق ذاك النسيج المتنوع وسنكون أول الحاصدين لنتائج الهجمة التكفيرية الهمجية التي تركت آثارها في أمواج الهجرة للبناة الأوائل من المسيحيين..!
فهل سنقف على أطلال الغنائم متفرجين على وداع شريك غاب؟ أم سنفتح أبواب كل فكرٍ يفيد بإعادة اللحمة والوحدة الوطنية بمسؤولية مستحقة عبر مفكرينا وباحثينا وكتابنا ومثقفينا على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، وبعيداً عن جوقة التمجيد والاستظهار والتلقين الذي لن يبني في مستقبل حياة السوريين سوى الأمس نفسه؟ ومعاً لإعادة إعمار النفس وتحمل مسؤولية المشاركة والتضامن مع التنوع دون سواه.. فإعادة إعمار العقل والفكر أولى بالأولوية من إعمار المساكن التي أتمنى (وإن كنت طوباوياً) أن نسكن فيها معاً بكل تنوعنا العرقي والديني والطائفي والمذهبي والعلماني وقد فتحنا كل الأبواب بعضها على بعضٍ وكأننا عائلة واحدة.
نحن في نهاية النفق للخروج من الأزمة والحرب، عشناها معاً وسننتصر فيها معاً وحتماً معاً، دفنا الشهداء من أبنائنا كي تبقى ذكراهم فينا ونحن نحمل ابتسامة يومٍ جديد سنتمكن من بنائه معاً فلنختلف باحترام كي نحيا بمحبة وكما لبعض رموز تاريخنا العربي والإسلامي حضور بتسميات الشوارع والأمكنة أرى ضرورة لحضور تسميات رموزٍ سورية أخرى وإن كانت مما قبل الميلاد نفسه، فهل نرى مثلاً شارعاً يحمل اسم ابولودور الدمشقي الذي تحتفي به روما وتجعل من لوائحه وشرائعه أثراً خالداً على أبواب ساحاتها التاريخية؟ دوننا وهو دمشقي قبلنا جميعاً! وسورية لها من العمر ما هو أكبر من كل ثقافاتها الوافدة..
وختاماً.. أجد من الواجب تقديم الشكر الجزيل لكل الأساتذة والمؤرخين والباحثين والكتاب السوريين والعرب الذين رافقوني اختلافاً وتأييداً في هذا الشأن.
وأقدم احترامي لكل من استمعت إليه ممن اختلف معي وكان له رأي سديد، أو اتفق معي وكان لرأيه كل الاحترام والتقدير.
وكما أشكر مطلقي الغضب وأقدم لهم اعتذاري لما أصابهم به كلامي من أثر لم أتقصده بالتأكيد.. أشدُ على يد من يدعو لضرورة حضور الرمز في حياتنا لكنني سأصافحه بحرارةٍ أكثر إذا ما انفتح على كل الأسئلة وكل النقاش مهما شككت، فاليقين لايبدأ من دون الشك والشكْ الذي لا يثير الأسئلة سيكون فخنا الأصعب إذا ما واجهناه لأنه شكٌ خبيث لا يطلب إجابة بل ينتظر نتائج العصبية والانغلاق ليس إلا!
وليعلم الجميع بأنني لم ولن أقرأ سطراً واحداً من تاريخنا السوري تحت أي اعتبارٍ كان سوى لعقلي الذي أصر على حريته وتجاوزه لكل مقدس أو موروث. طائفةً كان أم غير ذلك ولم ولن أعير اهتماماً أو احتراماً إلى أي رؤية مغلقة وعصبية مهما بدت مغلفة بالتدين والتطيف والتمذهب أو غيره.
ولأنني أفخر بسوريتي سأبقى حريصاً على بقائها وطناً يمكنه أن يتسع للعالم أجمع كحرصي على مركزية حضورها في قلب ثقافة العالم برمته، «وسورية تزداد ثقافة» سيعني المنعة والقوة والعمران والنصر والسلم والانفتاح الواثق في كل اتجاهات الدنيا.
كانت زوبعة في فنجان وسأحرص من جهتي وأمل أن يكون حرصكم كذلك معارضين و مؤيدين ألا نكسر الفنجان.
أختم بالشكر والعذر والاحترام الأكيد للمعرفة دون سواها.
الوطن
بعد الكم الهائل من ردود الأفعال على كلامي الذي قلته في حديثٍ إذاعي سابق وكنت في معرض الحديث عن الضرورة اللازمة والوطنية لإعادة البناء عبر النظر في الكثير من المفاهيم التي تربينا ونشأ وعينا عليها، وكذلك ارتسمت من خلالها شخصيتنا الوطنية ومنها مفاهيم جاءت من تاريخ عربي وإسلامي حافل وطافح وكبير، وله من الضخامة ما يجعلنا نعترف بصعوبة الخوض فيه من دون مساءلات من هنا أو هناك أو اتهامات أو تأييد من هذا الطرف أو ذاك!
حتى يمكن النظر إلى هذا التاريخ وكأنه متاهة يضيع فيها المرء لكثرة المراجع واختلافها بل كثرة تناقضاتها وتناقض رواياتها مع كل فترة وكل زمن وكل قبيلة وكل دولة أو دويلة أو إمارة أو خلافة، نشأت وبادت أو انهزمت أو انتصرت.. أو.. أو.
وبعد كل ذلك الغضب الذي تم فيه إثارة الشارع على كلامي الذي اقتطع منه ما يلزم كما أراد ناقلوه عبر وسائل التواصل الاجتماعي (علماً بأنني لست من رواده)، واعتبروا كلامي يحمل نوعاً من التعريض والتعرض المقصود لرمز، وكأنني أستهدفه من دون سواه أو من دون هدفٍ أهدف إليه من وراء رأيي الذي كنت بصدد شرحه وتوضيحه، أجد نفسي الآن أمام نتائج لابد من قراءتها والتصريح عن رأيي بها بما يلي:
بدايةً ومع كامل الأسف كانت النتيجة الأبرز تميل لمصلحة كفة الغضب الرافض برعونة ولم أفهم من ورائه رأياً يمكنني من التقييم والمحاكمة أو الحوار، وهذا بحد ذاته وضعني أمام امتحان حقيقي مع الناس الغاضبة أو التي أُستغضبت وتم إغضابها علي فوضعتني في أحرج موقف لي في حياتي. إذ لابد ولامناص ولامراء لي إلا أن أتلقى بصدر مفتوح وشجاع ورحب كل هذا السيل الجارف من الغضب لرأيٍ قلته في رمز (وإن بدا مبتوراً)، وهنا أجد نفسي شجاعاً في الانحناء محترماً هذا الغضب العاصف.
وإن تطلب الأمر اعتذاراً فأنا صاحبه وغضب الناس جدير بانحناء الجميع له من دون شك، ولابد من التنويه الأكيد بأنني لا أدعي الاختصاص ولست باحثاً أو كاتباً أو مؤرخاً بل أنا مجرد قارئ ودارس للتاريخ في الجامعة، وبذات الوقت متابع وصاحب فضولٍ ساخن يأخذني لكل المطارح الممنوعة على المعرفة والتداول، ومذ كنت طالباً كنت كارهاً كل ما يمنع وأعتبر كل ما يُمنع عني إنما يمنع عني المعرفة كما يمنعني عن التفكير بحرية ويمنع عني المستقبل الذي سيبنيه على هواه كما بني التاريخ أيضاً على هواه.
انقسمت الآراء واختلفت في هذا الشأن وكنت أتابع ذلك بعيداً عن صخب المواقف الرافضة أو المؤيدة، واضعاً نصب عيني البحث عن رأيٍ يفيد ويحقق نجاحاً للمناقشة أو الحوار المثار من دون عصبية أو إلغاء للآخر!
ولابد من الاعتراف بأن ما سمعته من همس ونصائح وكلام بقصد مواساة الموقف كان يزعجني ويضعني في حرجٍ مضاعف أمام هذا الموقف الذي لامناص من جلائه قبل أي اعتبارٍ آخر.
قرأت للكثير من الآراء رفضاً وتأييداً وأعيد التذكير هنا بأن ما قلته لم يكن حول رمزٍ بحد ذاته (؟؟)، بل حول مشكلة إضفاء القداسة والمنع على كل الرموز التي شكلتنا ومنعت عنا استجلاء حقائق قد تفيد أكثر إذا ما فتحت صفحات تلك الرموز وأتيحت للنشء المتوالد تباعاً من أجيال أن يطلع ويفكر ويحلل ويستنبط بنفسه النتائج من دون حفظ ببغاوي أو تلقينٍ مسبق بلا هدف سوى الحفظ نفسه، أفلا نعيد بذلك تشكيل شخصيتنا ونمنحها المنعة والقوة والانتماء من دون وراثة غبية؟
وخصوصاً مع هذا الصراع القائم فينا وعلينا ومن كل قوى الأرض قاطبة!
وأضرب مثالاً على ذلك شخصية (صلاح الدين الأيوبي) وهي لبُ السخونة الناشئة في هذا الحوار المتشظي والذي يزداد تشظياً من دون بوصلة منطق تمسك بزمامه! وأرجو ألا يحتكر أحد كامل المعرفة لهذا الرمز لأنني كغيري من السوريين نشأت وتربيت وتشكل وعيي وبعض من شخصيتي على هذا الرمز، وهو بطل تاريخي احتل مكانته من دون تدليس أو تزييف أو استعارةٍ لمنجز ناجز أو نصرٍ مشهود أو.. أو.. ممن حفلت بهم بعض صفحات تاريخٍ كُتب بغير لغة! وهو ما زال سيفاً وفارساً وباني صرح دولة ممتدة عجزت عن تحقيقها خلافات شاخت وهرمت في زمنه و.. و.. ولن تتسع الكلمات للإلمام والتعداد والإطناب والمديح والتقريظ و. و… و.. الخ.
لكن الفهم يستوجب الإحاطة والنظر بكل ما هو متاح للمعرفة وليس حكراً على إشادة يمكن إكساؤها بلبوس غير مناسب للعلم والتحليل والاستنتاج الحر.. فالتاريخ لم تستوجب قراءته يوماً أن نقوم للوضوء قبل الاطلاع.. وهو ليس كتاباً للترتيل بقدر ما هو صنيعة بشرية تحتمل الجدل والشك واليقين وعكسه. وأعتقد حازماً وجازماً بأن ذلك الأمر بحد ذاته هو واحدٌ من أهم أسباب تخلفنا وتراجعنا المستدام بكل أسف وسيستديم بأسف أكبر إذا ما بقينا أسرى لكل قراءة خائفة لحقائق أو أحداث أو معلومة أياً تكن.
ونزع القداسة ليس كفراً بالرمز بل هو مفتاح حقيقي وعلمي لإعادة اكتشافه، كما هو مفتاح لاحترام عقلنا حين نقرأ عنه ونعيد فهم ماضينا فنتماهى مع حقائقه التي تدعونا لتحمل مسؤولية ما هو واجب علينا تجاه تاريخ لانقرؤه للتغني والتمجيد المكرر الملحن فقط على طريقة مبتكري الممنوعات والمدافعين عن تكريسها وتحفيظها وتلقين عبرها ومواعظها (!!).
أسفت لبعض آراءٍ ناصرتني وأحترمها كما أسفت لبعض آراءٍ خالفتني وأحترمها إذ لم أصل من كل ذلك إلى نتيجة واضحة سوى الانقسام الذي لا يحترم فيه الخصوم فكر بعضهم بل يسعون لإلغائه وإلغائي بطريقهم، وأسفت أكثر لمعركة كهذه يريدني البعض فيها (بطلاً) كما يريدني البعض الآخر (ضحية)..
لم ولن أكون بطلاً لمعارك كهذه يحتل جنباتها التشنج والغضب المنفلت من دون تعقل سواء لهذا الطرف أو لذاك.. كما لن أكون ضحية حتماً.. وأجدني أقرب للاستقالة من معارك كهذه نستطيع أن نرى نهايتها ونتائجها رؤية العين قبل بدايتها، فلا شيء سوى الاختلاف الغاضب وإقامة المحاكم على كل رأي وكل تصريح وكل مداخلة ومن دون أي حوار أو نقاش أو على الأقل تبادل للرأي أو المعلومة!
ولأنني سوري قبل أي شي آخر فإنني معني باكتشاف المزيد من غنى هذا المفهوم السوري الضارب في أعماق التاريخ بتنوعه العرقي والإثني والديني والطائفي والقومي و… و.. على حدٍ سواء، وسأبقى فاتحاً لصفحات تنوعه واختلافه ومطلعاً على كل من شارك في بنائه ومنعته، وقناعتي سيحددها تفكيري ومحاكمتي فقط من دون تلقين وإملاءٍ مسبق، فلا بناء من دون معرفة ولا قوة أيضاً من دون ذلك.. فإن كنا نأمل للأجيال قوة وبأساً فلنتح أمامهم كل المعارف وليخرجوا بمعرفةٍ تزيد منعة انتمائهم بل اعتزازهم بالانتماء نفسه أيضاً لأن الانتماء اختيار وليس إملاء ووراثة أو تركة إرث يمكن الطمع به من عدمه.
ولن يعيب أي رمز أن تفتح صفحاته مهما كانت، فعيب المنع أكبر من أي عيب آخر بل سيخفي في جنباته المزيد من الظنون والشك ليس إلا!
عدا ما سنحصد من وراء ذلك المنع من إنتاج أجيالٍ قادرة على الحفظ والاستظهار من دون تبنٍ لقناعة أو فكر أو ثقافة، ونكون بذلك أشبه برب الأسرة الذي لا يخطئ بنظر أولاده على الإطلاق وهو يستمر في إثبات صنميته أمامهم على الدوام حتى يخرجوا إلى الدنيا وقد امتلؤوا بكل الأسئلة المحظورة داخل رؤوسهم وحدها ومن دون أن يقرؤوها في وجهه… فقط لأن رب الأسرة هنا حامل ووارثٌ للحفظ من دون قراءة واطلاع وتعب، ولا يملك إجابة على تلك الأسئلة لأنه كان من الحفظة وتم تلقينه بما هو مطلوب فقط.
لن يفتح بابٌ للمعرفة من دون إحترام لكل الأسئلة ومهما كانت جريئة..
فالامتحان في الإجابة والمعرفة وبكل جوانبها المحيطة والمطلوبة..
هل من الخطأ أن نعيد بناء النفس..؟
(كسوريين) تحديداً
ومتنوعين بتحديدٍ أكثر
وخاصة في هذه المرحلة الطافحة بحساسية واستحقاق السياسة والاحتراب والدمار والتفرقة وإرهاب التكفير باسم الدين وما أسفرت عنه الحرب علينا من اختلال واختلاط وامتزاج وزحام أفكار غريبة عن النسيج المستحق في المجتمع السوري الطافح بالتنوع..!
سنخطئ إذا ما أبقينا الحصانة من دون ولوج لاستحقاقها وسنساهم في ارتكاب أبشع الجرائم بحق ذاك النسيج المتنوع وسنكون أول الحاصدين لنتائج الهجمة التكفيرية الهمجية التي تركت آثارها في أمواج الهجرة للبناة الأوائل من المسيحيين..!
فهل سنقف على أطلال الغنائم متفرجين على وداع شريك غاب؟ أم سنفتح أبواب كل فكرٍ يفيد بإعادة اللحمة والوحدة الوطنية بمسؤولية مستحقة عبر مفكرينا وباحثينا وكتابنا ومثقفينا على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، وبعيداً عن جوقة التمجيد والاستظهار والتلقين الذي لن يبني في مستقبل حياة السوريين سوى الأمس نفسه؟ ومعاً لإعادة إعمار النفس وتحمل مسؤولية المشاركة والتضامن مع التنوع دون سواه.. فإعادة إعمار العقل والفكر أولى بالأولوية من إعمار المساكن التي أتمنى (وإن كنت طوباوياً) أن نسكن فيها معاً بكل تنوعنا العرقي والديني والطائفي والمذهبي والعلماني وقد فتحنا كل الأبواب بعضها على بعضٍ وكأننا عائلة واحدة.
نحن في نهاية النفق للخروج من الأزمة والحرب، عشناها معاً وسننتصر فيها معاً وحتماً معاً، دفنا الشهداء من أبنائنا كي تبقى ذكراهم فينا ونحن نحمل ابتسامة يومٍ جديد سنتمكن من بنائه معاً فلنختلف باحترام كي نحيا بمحبة وكما لبعض رموز تاريخنا العربي والإسلامي حضور بتسميات الشوارع والأمكنة أرى ضرورة لحضور تسميات رموزٍ سورية أخرى وإن كانت مما قبل الميلاد نفسه، فهل نرى مثلاً شارعاً يحمل اسم ابولودور الدمشقي الذي تحتفي به روما وتجعل من لوائحه وشرائعه أثراً خالداً على أبواب ساحاتها التاريخية؟ دوننا وهو دمشقي قبلنا جميعاً! وسورية لها من العمر ما هو أكبر من كل ثقافاتها الوافدة..
وختاماً.. أجد من الواجب تقديم الشكر الجزيل لكل الأساتذة والمؤرخين والباحثين والكتاب السوريين والعرب الذين رافقوني اختلافاً وتأييداً في هذا الشأن.
وأقدم احترامي لكل من استمعت إليه ممن اختلف معي وكان له رأي سديد، أو اتفق معي وكان لرأيه كل الاحترام والتقدير.
وكما أشكر مطلقي الغضب وأقدم لهم اعتذاري لما أصابهم به كلامي من أثر لم أتقصده بالتأكيد.. أشدُ على يد من يدعو لضرورة حضور الرمز في حياتنا لكنني سأصافحه بحرارةٍ أكثر إذا ما انفتح على كل الأسئلة وكل النقاش مهما شككت، فاليقين لايبدأ من دون الشك والشكْ الذي لا يثير الأسئلة سيكون فخنا الأصعب إذا ما واجهناه لأنه شكٌ خبيث لا يطلب إجابة بل ينتظر نتائج العصبية والانغلاق ليس إلا!
وليعلم الجميع بأنني لم ولن أقرأ سطراً واحداً من تاريخنا السوري تحت أي اعتبارٍ كان سوى لعقلي الذي أصر على حريته وتجاوزه لكل مقدس أو موروث. طائفةً كان أم غير ذلك ولم ولن أعير اهتماماً أو احتراماً إلى أي رؤية مغلقة وعصبية مهما بدت مغلفة بالتدين والتطيف والتمذهب أو غيره.
ولأنني أفخر بسوريتي سأبقى حريصاً على بقائها وطناً يمكنه أن يتسع للعالم أجمع كحرصي على مركزية حضورها في قلب ثقافة العالم برمته، «وسورية تزداد ثقافة» سيعني المنعة والقوة والعمران والنصر والسلم والانفتاح الواثق في كل اتجاهات الدنيا.
كانت زوبعة في فنجان وسأحرص من جهتي وأمل أن يكون حرصكم كذلك معارضين و مؤيدين ألا نكسر الفنجان.
أختم بالشكر والعذر والاحترام الأكيد للمعرفة دون سواها.
الوطن