يمثل الحديث عن بروتوكول أضنة بين سوريا وتركيا، في جانب منه، عودة إلى “الدفاتر القديمة”، على أمل العثور على ما يساعد في زحزحة العُقَد المستحكِمَة، وتضييق الفجوات القائمة، وإعادة الوصل بين البلدين والجارين اللدودين. وهذه مسألة مفهومة في ظل صعوبة الانطلاق من الواقع الراهن، بكل ما فيه من اختلال واحتلال وتورط تركي عميق ومديد في الحرب السورية، وظروف وإكراهات الحرب والأوضاع الإقليمية (والدولية)، بما في ذلك احتلال الأمريكي أجزاء من الأرض السورية، وبروز “إدارة ذاتية” في منطقة الجزيرة السورية، مدعومة أمريكياً.
ومهما كانت الرغبة وحتى الحاجة للتقارب اليوم، فلا بد من “أساس” أو “حدث” أو “تجربة” في الماضي يمكن “التأسيس عليها” أو عدها “نقطة استعادة” لـ”نظام التفاعلات” بين البلدين، في مرحلة “ضبط” للتوترات ولاحقاً التقارب، وربما مجرد القول: “إن ما حدث بالأمس، أي في العام 1998 على وجه التحديد -وقد أسس لـعقد أو يزيد من التقارب بين البلدين- يمكن أن يحدث مثله اليوم. ولو أن التطورات كشفت عن أن ذلك التقارب كان ملغزاً وملتبساً وربما مخادعاً بكيفية فاقت كل التوقعات”.
توصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أن “الدفاتر القديمة” يمكن أن تساعد في الدفع نحو تقارب بين سوريا وتركيا. وهذا ما طرحته موسكو على أنقرة ودمشق منذ سنوات عدة (2019)، وربما قبل ذلك. وظهر على سطح الحدث أن بوتين طرح فكرة العودة إلى بروتوكول أضنة على نظيره التركي أردوغان في اجتماعات بينهما عام 2019. وتحدثا بذلك أمام الإعلام. قال بوتين: “إنّ الاتفاقية (بروتوكول أضنة) لا تزال قائمة وأنّه بإمكان هذه الاتفاقية مساعدة تركيا في حماية حدودها الجنوبية مع سوريا”.
وجدت موسكو أن بروتوكول أضنة 1998 هو “أساس” أو “حدث” أو “تجربة” يمكن “استعادتها” أو “استدعاءها” من الماضي القريب، وليس الاتفاقات التجارية والاستثمارية وغيرها للعام 2009 مثلاً، لأن البروتوكول أمني ويستجيب لهواجس أنقرة حيال ما تعده مصدر تهديد من قِبَل “كرد سوريا”، وأن المشكلة الرئيسة اليوم هي “أمنية”، ويمكن أن يكون موضوع “الكيانية” التي يقيمها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) في منطقة الجزيرة السورية، بدعم أمريكي، من هذا المنظور، نقطة “توافق موضوعي” ممكنة، ولكنها “حرجة” و”غير كافية”.
وكان لموسكو آنذاك، أي في العام 2019، حافز إضافي تَمَثَّلَ في نجاح استراتيجية عودة الدولة السورية إلى المنطقة الجنوبية، في أفق مرجعي هو اتفاق فصل القوات بين سوريا و”إسرائيل” عام 1974، وبعض التوافقات والالتزامات والضوابط الإضافية حول الأوضاع الناشئة في تلك المنطقة. ولموسكو كما معروف دور مهم في ترتيب الأمور وتكييف المواقف بهذا الخصوص. كما أن خبرة “عملية أستانة” التي جمعت موسكو وأنقرة مع طهران، وإدارة “مناطق خفض التصعيد”، مثّلت منوالاً مهماً بين الأطراف. وبالتالي كان التقدير -ولا يزال- هو إمكان “إعادة إنتاج” مشابهة لتلك التجربة في الشمال بين دمشق وأنقرة.
وإذ يتحدث الروس عن بروتوكول أضنة، لكن ذلك لا يعني تبنياً أو دفعاً كاملاً لمضمونه أو خط المعنى الرئيس فيه، هذا أمر يتطلب الكثير من المداولة والنقاش، فضلاً عن الخلافية الحادة بين دمشق وأنقرة حول ذلك. يريد الروس السير في مسارات الأمن أولاً: أمن الحدود، وأمن المناطق في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، وانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية. وتشجيع الأطراف عن وضع خريطة طريق لعودة العلاقات إلى لحظة أكثر توازناً بين البلدين.
وهكذا، فقد لا يكون البروتوكول مقصوداً بعينه، كما يتكرر ذلك في اللفظ والمعنى، وهو أقل مما يطمح له الروس. الواقع بالغ التعقيد، وفيه تداخلات ورهانات كثيرة ومتناقضة أو متعاكسة، حتى بين طرفي البروتوكول نفسه، وخاصة تركيا. المقصود هو “إمكان التفاهم” الذي عبر عنه أو وعد به البروتوكول.
تريد روسيا أن تُثَبِّت أساسيات لازمة أو واجبة في الموقف بين البلدين: وحدة وسلامة الأراضي السورية. واحتواء مصادر التهديد لكل بلد انطلاقاً من البلد الآخر. وأن يكون الأمن منطلقاً لعودة علاقات أوسع وأكثر حيوية بين البلدين. وان يكون التقارب أساساً لدائرة تفاهمات أوسع على مستوى الإقليم. وهذه أمور لا تخص البلدين والإقليم فحسب، بل أن فيها مصلحة رئيسة لروسيا نفسها.
وإذ يريد الروس أن يكونوا ضامنين للموضوع على غرار المنطقة الجنوبية، كما سبقت الإشارة، وهي تجربة على أهميتها وعائديتها لسوريا، لكن فيها أمور ملتبسة ومخاطر جدية. والصحيح أنها تركت فجوات واختلالات، ولم تحقق عودة مستقرة بالتمام للدولة إلى تلك المنطقة. وهذا أمر مفهوم، ويمكن الإفادة من درس المنطقة الجنوبية لتفادي أي اختلالات ممكنة أو محتملة في مسار ونتائج التقارب بين سوريا وتركيا. وهذا يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق.
واليوم، لم تتغير رؤية موسكو كثيراً عما كانت عام عام 2019، بل أصحبت أكثر وضوحاً وثقةً وعمقاً، ليس من منظورها هي فحسب، بل من منظور مختلف الأطراف. والتهديدات أكثر وضوحاً أيضاً، الأمر الذي يعزز حاجة الأطراف، وخاصة سوريا وتركيا، للعودة إلى “الدفاتر القديمة”، وتعزيز وتأطير ومفهمة خريطة تقارب جديدة بينها. وبما أن الأجندة مركبة أو بالغة التعقيد، فإن من المناسب “البدء بشيء ما”، تم التوافق عليه في الماضي، ويعطي البلدين “نقطة ارتكاز” بل وأفقاً لازماً لتقارب مطلوب وملح.. وللحديث بقية.
الدكتور عقيل سعيد محفوض