تذهب معظم المؤشرات نحو ترجيح احتمال تعمق أزمة الغذاء عالمياً، وربما إلى أكثر من ذلك، فيما لو خرجت المواجهة الروسية –الغربية عن سياقها التقليدي. وتالياً، فإن جوهر المشكلة العربية اليوم ليس مع من يؤيد موسكو أو مع من يناصر الغرب، إنما هو في العوائق التي يمكن أن تحول دون تمكّن الحكومات العربية من تأمين الغذاء لمواطنيها، سواء نتيجة الصعوبات اللوجستية التي يمكن تعرقل عملية الوصول إلى سوق الغذاء العالمي أو عدم توفر الإمكانيات المالية الكافية لدى بعض الدول العربية، ولا سيما لجهة توفر القطع الأجنبي لديها.
هذه المخاوف الحقيقية تأتي في وقت تعيش المنطقة العربية على وقع خلافات وأزمات بينية كثيرة، انعكست آثارها بوضوح على التعاون الاقتصادي العربي المشترك، ولا سيما في ميدان المشروعات المتعلقة بالأمن الغذائي، وكذلك على الإنتاج القطري من الغذاء الذي تدهور حجمه بنسبة كبيرة، كما هي الحال في سوريا والعراق والسودان وليبيا وغيرها.
وما يزيد خطورة هذه المخاوف أيضاً هو ارتفاع قيمة الفجوة الغذائية العربية المتحققة خلال العقد الأخير، مع تراجع واضح في نسبة الاكتفاء الذاتي، وهذا ما سنحاول توضيحه من خلال بعض البيانات والأرقام الإحصائية المتاحة، الصادرة عن مؤسسات تعنى بالعمل العربي المشترك.
لم تقتصر المتغيرات التي حملها العقد الثاني من القرن الحالي على الحياة السياسية العربية، فجميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نالها نصيب ليس قليلاً من تلك المتغيرات التي تباينت في حدتها واتجاهاتها وفقاً لواقع كل دولة عربية وما شهدته من أحداث خلال تلك الفترة.
على المستوى القومي، يمكن الجزم بحدوث انعكاسات سلبية؛ فعلى صعيد الأمن الغذائي العربي، تشير بيانات التقرير الاقتصادي العربي لعام 2021 إلى أنّ قيمة الفجوة الغذائية العربية المتحصّلة من مقاربة واقع 11 مجموعة سلعية غذائية ارتفعت من نحو 28.9 مليار دولار في العام 2010 إلى نحو 33.6 مليار دولار في العام 2019، أي بنسبة زيادة قدرها 16%. وتضيف تلك البيانات أنَّ نسبة الاكتفاء الذاتي العربي تراجعت في 9 مجموعات غذائية أساسية، وارتفعت في مجموعتين فقط.
وكما هو متوقع، فإنَّ الجزء الأكبر من تلك الفجوة جاء من الحبوب والدقيق، وهي المجموعة التي سجلت فجوة بلغت قيمتها العام 2019 نحو 20.7 مليار دولار، بزيادة قدرها 21.8% مقارنة مع العام 2010، والتوقعات ترجح أنها زادت على ذلك خلال العامين الأخيرين، متأثرة بعدة عوامل، من أبرزها: موجات الجفاف التي ضربت دولاً عربية، وزيادة الاستهلاك الناجمة عن الزيادة السكانية، وتوجه السكان في بعض الدول العربية للاعتماد أكثر على الخبز كمادة أساسية في مواجهة ظاهرة الغلاء، فضلاً عن ارتفاع أسعار السلع عالمياً بعد أزمة فيروس كورونا.
هذا الأمر يتفق مع مؤشرات تراجع نسبة الاكتفاء الذاتي المحققة عربياً في هذه السلعة من نحو 44.6% عام 2010 إلى نحو 37.1% عام 2019. ويأتي القمح في مقدمة الحبوب، محققاً فجوة قدرها 9.5 مليارات دولار، وبنسبة اكتفاء ذاتي قدرها 37%، فالذرة الشامية ثانياً بنحو 4.7 مليارات دولار، ثم الأرز ثالثاً بنحو 4.2 مليارات دولار.
المجموعة السلعية الثانية لجهة قيمة فجوتها الغذائية هي اللحوم. وقد سجّلت فجوة بلغت قيمتها نحو 7.3 مليارات دولار عام 2019، بنسبة زيادة قدرها 21.8% مقارنة بعام 2010، محققة اكتفاء ذاتياً وصلت نسبته إلى نحو 76%.
وجاءت مجموعة الألبان ومنتجاتها ثالثة بين المجموعات بنحو 3.3 مليارات دولار عام 2019، وبزيادة كبيرة عن بداية العقد الثاني بلغت 59%. أما السكر، فقد بلغت قيمة فجوته نحو 3.1 مليارات دولار عام 2019، بزيادة قدرها 4.7% عن العام 2010، فيما قدرت نسبة الاكتفاء الذاتي منه بنحو 45%.
ولا تبتعد النتائج المستخلصة من مقارنة واقع الصادرات العربية من السلع الغذائية بوارداتها، بل تؤكد أن ظاهرة الانكشاف العربي على الخارج في ملف السلع الغذائية باتت واضحة، والبيانات الرسمية تشير بجلاء شديد إلى أنَّ الصادرات العربية من السلع الغذائية تراجعت من حيث الكمية عام 2019 عما كانت عليه في العام 2010، وأنَّ قيمتها زادت بشكل ضعيف، فيما شهدت الواردات العربية من السلع زيادة من حيث الكمية والقيمة، فقد سجلت عام 2019 ما حجمه 133.8 ألف طن، وبقيمة تقدر بنحو 63 مليار دولار، مسجلة بذلك زيادة واضحة عن العام 2010 من حيث الكمية التي بلغت نحو 106 آلاف طن، ومن حيث القيمة، التي بلغت آنذاك نحو 53.1 مليار دولار.
رغم أهمية المجموعات الغذائية التي تحقق الدول العربية فيها اكتفاء ذاتياً عالياً أو متوسطاً، فإنَّ مجموعة العجز تبقى هي الأساس بالنظر إلى أنها تضم سلعاً غذائية رئيسية هي: الحبوب (القمح تحديداً)، والسكر، والزيوت النباتية. وقد أثبتت الأزمة الأوكرانية أن هذه المجموعة السلعية مهددة دوماً بالتقلبات، من جهة الكمية أو الأسعار، لأسباب عديدة.
لذلك، إن أولوية الدول العربية بحكوماتها ومؤسساتها المعنية بالعمل العربي المشترك، يجب أن تبدأ من محاولة إنتاج حلول على المستوى القومي تستثمر في الموارد العربية المتاحة من جهة، وتؤمن للدول العربية احتياجاتها من السلع الغذائية الرئيسية من جهة ثانية، إلا أن فرص تحقق ذلك تبدو ضئيلة في الوقت الراهن بالنظر إلى الأسباب التالية:
– استفحال الخلافات السياسية بين الدول العربية، وتحديداً بين الدول التي تملك المال، وتلك التي لديها الموارد. هذه الخلافات وصلت إلى مرحلة القطيعة والعداء والتدخل المباشر في شؤون الدول. لذلك، بات ينظر أحياناً إلى أي مشروع استثماري على أنه أحد أشكال محاولات السيطرة وترسيخ النفوذ. ورغم القروض والمنح التي تقدّمها بعض البرامج العربية للحكومات لتمكينها من تنفيذ بعض المشروعات، فإنها تبقى قليلة قياساً بما هو مطلوب لردم تلك الفجوة.
– النزاعات والحروب التي تعانيها دول عربية تمتلك خامات وإمكانيات زراعية كبيرة، كالسودان، ومن ثم العراق، فسوريا، وغيرها، وربما الحالة السورية هي الأقرب، فالبلد الذي وصل إنتاجه عام 2011 إلى 4.5 ملايين طن من القمح، بات اليوم يستورد ما لا يقل عن مليون طن لتأمين احتياجات شعبه، بل إنَّ صافي وارداته الزراعية التي لم تكن عام 2010 تتجاوز 557 مليون دولار، أصبحت عام 2019 تتجاوز 1.3 مليار دولار، تبعاً للبيانات العربية.
– غياب البيئة الاستثمارية المشجعة للمستثمرين ولمؤسسات القطاع الخاص، فالمخاوف من الإجراءات البيروقراطية والتعقيدات الإدارية وتقلبات القوانين والأنظمة تقف حائلاً دون ضخ القطاع الخاص العربي استثمارات كبيرة في القطاع الزراعي، وهو القطاع المعروف بارتفاع نسبة المخاطرة وتأخر مردوديته.
– التغيرات المناخية، وفي مقدمتها الجفاف، التي تسببت بتغليب أولويات استثمارية على غيرها منعاً للخسارة. وخلال السنوات السابقة، تعرضت دول عربية لمواسم جفاف أثرت في معظم الإنتاج الزراعي، وفي المساحات المزروعة في تلك الدول.
وتشير دراسات المنظمة العربية للتنمية الزراعية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة إلى أنه إذا لم تُتخذ الآن التدخلات التي تجعل الزراعة أكثر استدامة، وأكثر مرونة إنتاجية، فإنَّ آثار التغييرات المناخية سوف تؤدي إلى تراجع كبير في إنتاج الغذاء في الدول والأقاليم التي تعاني فعلياً قصوراً في الأمن الغذائي.
– استحواذ قطاعات الاقتصاد الريعي على مجمل النشاط الاقتصادي في معظم الدول العربية، وهذا يبدو واضحاً من خلال تمركز معظم الاستثمارات المحلية والخارجية في قطاعات العقارات والخدمات المالية والسياحة وغيرها. وهكذا، فإن القطاع الزراعي يحتل عادة مرتبة متأخرة في توجهات المستثمرين والاستثمارات.
وبحسب بيانات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، فإن أهم القطاعات الاستثمارية المستقبلة للمشروعات الأجنبية في الدول العربية لعام 2021، فقد جاءت الأغذية والمشروبات في المرتبة الثامنة بعد خدمات الأعمال، والبرمجيات، والخدمات المالية، والنقل والتخزين، والاتصالات، والمعدات الصناعية، والعقارات. وكذلك كان حال مشروعات الاستثمارات العربية البينية التي حلّ قطاع العقارات في المقدمة بأعلى تكلفة استثمارية بقيمة 1.7 مليار دولار ممثلة نحو 26.4% من الإجمالي، تلاه قطاع خدمات الأعمال بتكلفة 1.1 مليار دولار، وبحصة قدرها 16.7%.