التعليم الجامعي الحكومي، والذي من المفترض أنه “مجاني”، يجري تقليصه عاماً بعد آخر، ليس من خلال “المنافسة” مع التعليم الجامعي الخاص، بل من خلال سياسات القبول الجامعي المطبقة، وأنظمة التعليم الحكومي المأجورة بمسمياتها المختلفة.
ففي كل عام يتم زيادة أعداد الطلاب المقبولين في نظام التعليم الموازي “الحكومي” المأجور، على حساب تقليص أعداد الطلاب المقبولين في نظام التعليم العام “المجاني” افتراضاً، وصولاً إلى نسبة 50% لكل منها في هذا العام، مع زيادة في الرسوم السنوية الخاصة بنظام التعليم الموازي “الحكومي”!
بحسب وزير التعليم العالي، خلال مؤتمر صحفي بتاريخ 3/10/2022، أنه: “لم يتم زيادة أي رسوم على التسجيل الجامعي، والوزارة تأخذ بعين الاعتبار أن العديد من الطلاب غير قادرين على الولوج في التعليم الخاص، أو متابعة الدراسة خارج القطر، لذا فإنه تم تحديد الرسم السنوي للكليات النظرية بـ 5 آلاف ليرة كمبلغ للتسجيل، وفي الكليات الطبية 8 آلاف ليرة سنوياً، أي قيمة الرسوم المترتبة على طالب الطب البشري خلال فترة الست سنوات من دراسته في الكلية الطبية 48 ألف ليرة”.
حديث الوزير أعلاه عن عدم زيادة الرسوم السنوية ينطبق على الطلاب المقبولين في نظام التعليم العام فقط، ولا ينطبق على الطلاب المقبولين في نظام التعليم الموازي المأجور، أو غيره من أنظمة التعليم الحكومي المأجورة الأخرى (مفتوح- افتراضي).
ومع ذلك فإن الوزير لم ينفِ زيادة الرسوم في التعليم الموازي، وكذلك لم ينفِ زيادة أعداد المقبولين في نظام التعليم الموازي، حيث قال: “تمت زيادة نسبة التعليم الموازي لمن لم يحصل على التعليم العام، أي لم يحقق العلامة المطلوبة، لتصل إلى 50% من أعداد المقبولين، ولكن برسوم أعلى من القبول العام.. فمثلاً العلوم الطبية في الموازي 600 ألف سنوياً، العلوم الهندسية 450 ألف سنوياً.. وهذا يعطي دافعاً للطالب لمتابعة تحصيله العلمي في حال كانت علاماته أقل مما هو مطلوب في التعليم العام بـ 2 أو 3 علامات.
التفسير العملي للحديث أعلاه، ولمجمل سياسات القبول الجامعي المطبقة، يعني إمكانية غض الطرف بسهولة عن فارق العلامات في معدلات القبول بين نظامي القبول العام والموازي باعتبارها لا تتجاوز 2 أو 3 علامات فقط لا غير، بحسب حديث الوزير.
ليس ذلك فقط، فقد توقع الوزير أن: “درجات القبول الجامعي في التعليم الموازي للكليات الطبية لن يزيد عن درجة أو درجة ونصف”!
وفيما يخص رسوم الموازي قال: “إن وزارة التعليم العالي تفكر بتقسيم القبول فيه إلى شريحتين، الأولى: شريحة الطالب الذي يحتاج إلى علامتين وما دون، يتم معاملته بسعر محدد، والشريحة الثانية: هي التي تخص الطالب الذي يحتاج إلى علامتين وما فوق ويكون بسعر آخر، لكن هناك إشكاليات لتطبيق هذا الأمر”.
ففارق العلامات الذي فرض الفرز بين الطلاب وفقاً للنتيجة أعلاه للقبول في العام والموازي لا علاقة له بالإمكانية والتميز بين الطلاب، بل مرتبط بنمط التعامل في سياسات القبول الجامعي نحو زيادة أعداد المقبولين في التعليم الموازي المأجور، مع مساعي زيادة رسومه، على حساب تقليص أعداد المقبولين في التعليم العام المجاني عاماً بعد آخر.
فطالب الموازي والعام بالنتيجة سيستكمل تحصيله العلمي بنفس الجامعة، وعلى أيدي نفس الأساتذة من أعضاء الهيئة التدريسية، وبنفس المناهج المعتمدة، مع فارق الملايين كرسوم بين طالب العام والموزي!
والنتيجة أن الطلاب الجامعيين المقبولين لهذا العام في التعليم الموازي “الحكومي” المأجور، والذين يشكلون نسبة 50% من أعداد الطلاب المقبولين في الجامعات الحكومية، سيتكبدون تلك الرسوم المقدرة بمئات الآلاف سنوياً، وبالملايين خلال مجمل سنوات الدراسة.
فإذا كانت قيمة الرسوم المترتبة على طالب الطب البشري في التعليم العام خلال فترة ست السنوات من دراسته في الكلية الطبية تبلغ 48 ألف ليرة، بحسب حديث الوزير، فإن قيمة الرسوم المترتبة على طالب الطب البشري في التعليم الموازي خلال فترة الست سنوات من دراسته في نفس الكلية الطبية سيبلغ 3,6 مليون ليرة!
فأين حرص الوزارة التي “تأخذ بعين الاعتبار أن العديد من الطلاب غير قادرين على الولوج في التعليم الخاص، أو متابعة الدراسة خارج القطر”، بحسب حديث الوزير أعلاه، في ظل هذا القدر من الرسوم السنوية والإجمالية التي فرضت على طلاب التعليم الموازي الحكومي، والطاردة للمفقرين من هؤلاء بالنتيجة، العاجزين عن تحمل مثل هذه التكاليف الباهظة؟
وأين التعليم الجامعي الحكومي المجاني وفقاً لهذا النمط من الفرز المفروض وفقاً لسياسات القبول الجامعي المطبقة؟
وما مصير التعليم الجامعي المجاني عموماً وفقاً للأرقام والنسب أعلاه، والتي تقلص العام “المجاني” على حساب زيادة المأجور (الموازي وغيره) عاماً بعد عام؟
النتيجة العملية في نهاية المطاف هي مزيد من تكريس الفرز الطبقي في التعليم الجامعي، ليس بين الحكومي والخاص كأمر مفروغ منه على مستوى الرسوم السنوية، بل في الحكومي نفسه، بين من يملك المال ومن لا يملكه، عبر تخفيض أعداد المقبولين فيه من المفقرين عاماً بعد آخر، وبمختلف مسميات أنظمته!فمن يملك المال متاح له استكمال تحصيله العلمي الجامعي في الخاص والحكومي المأجور بمسمياته المختلفة (موازٍ- مفتوح- افتراضي)، بينما من لا يملك المال من الغالبية الفقرة تتقلص فرصه في استكمال تحصيله العلمي الجامعي، حتى في الحكومي “المجاني”، وهي النتيجة الطبيعية لسياسات القبول الجامعي المجحفة المعمول بها، ووفقاً للسياسات التعليمية المطبقة، ولمجمل السياسات الطبقية والتمييزية المفروضة كنهج سياسي عام في البلاد!