لاريب أن شريحة كبرى من السوريين باتت تعاني من شظف العيش وشح الموارد وانسداد الآفاق مع تلاشي الأمل بانفراج قريب، فأكثر من ٨٠% منهم باتوا تحت خط الفقر، يحاصرهم قيصر من جهة، ومن جهة ثانية سياسات حكومية قاصرة وأحيانا بلهاء بل وقيصرية من حيث تدري او لاتدري، وفساد يكاد يكون معمماً ومُتغاضى عنه، وحرب فاجرة دمرت بلادهم وخطفت شبابهم واستنفذت مواردهم ومدخراتهم.
وإذا ما كانت سنوات العشرية السوداء حصدت مئات الألاف من الأرواح وأفقدت السوريين الإحساس بالأمان ودفعتهم إلى الهروب من الموت المحدق بهم بحثاً عن أمانٍ منشود وحياة مطمئنة بالحد الأدنى، ولو كان ذلك على دفة قارب يحمل في جوفه مخاطر الهلاك بقدر ما يحمل وعوداً بالنجاة، فإنه ومع خفوت صوت الرصاص وانحسار رقعة المعارك إلى حد كبير، كان من المتوقع ان يترافق ذلك مع انحسار لموجات الهجرة واللجوء، إلا أن الحرب الاقتصادية الأشد شراسة والتي زادت إثر الحرب العسكرية بشكل كبير جداً ومدروس، وزاد من وطأتها سوء إدارة ملموس وواضح للموارد الشحيحة بالأساس، كانت بمثابة الأنشوطة التي التفت حول أعناقهم ومنعتهم من التماس أسباب العيش هنا والتفكير مجدداً بحياة جديرة بإنسانيتهم، وشكلت سبباً جديداً لاستمرار التفكير بالهروب في محاولة الخلاص.
وهكذا، وعلى مدار عقدٍ وأكثر مازالت سوريا تنزف من شرايينها المفتوحة، وإذا كانت قد خسرت بُناها التحتية وثمار عقود من جهود التنمية التي أنتجت مؤشرات طيبة باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء، فإن أثمن ماخسرته، وماتزال، هي مواردها البشرية التي لا تعوض، فبالإضافة إلى ضحايا الحرب من شهداء وجرحى، فقد فقدت بالهجرة والنزوح واللجوء يداً عاملة مدربة ماهرة، وكفاءات علمية في جميع الاختصاصات، وهي ستحتاج إلى عشرات السنين ومئات المليارات لتعويضها، هذا إذا استطاعت تعويضها، ولعلي لا أبالغ إن قلت ان هذه واحدة من الأهداف المتوخاة للحرب على سوريا بشقيها العسكري والاقتصادي.
لا يمكن هنا أن ننكر أن الاسباب السابقة أعلاه كانت محددات أساسية في مسألة ظاهرة هجرة السوريين في العقد الأخير، إلا أن ثمة محدداً آخر لا يمكن إهماله أو التغاضي عنه، فقد شكلت ظروف الحرب فرصة للكثير من السوريين لتحقيق حلم طالما راودهم، وراود أجدادهم وآباءهم من قبلهم، والدليل على ذلك انتشار السوريين منذ بدايات القرن الماضي في معظم اصقاع العالم، وإذا ما كان الخطر الحياتي والشظف المعيشي عوامل نبذ، فقد كانت سياسات الدول المستقبلة والغربية منها خصوصاً، بكل ما تضمنته من تسهيلات، عوامل جذبٍ لا تقاوم، عوامل جذبٍ للحلم الغربي بكل محسناته البديعية من حريات وتقدم وحضارة ووفرة ورفاهية وجمال وفرص و…و…و…، صورة زاهية شكلها الضخ الإعلامي والثقافي على مدى عقود حتى غدت مُسلَّمَة، وبارديغما غير قابل للنقاش أو النقد ولا للمقارنة، لا يأتيه الباطل لا من أمامه ولا من خلفه، وبلوغه يتطلب فقط عبور البحر، وهو حلم جدير بركوب المخاطر والمجازفة حتى بالحياة ..
ما سبق لا يعني على الإطلاق إنكار ما تقدمه الحياة في الغرب من رفاه ومن فرص تقدمٍ هائلة تنتجها طبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد والقائم في أحد جوانبه على المنافسة التي تتطلب خلق المزيد من الفرص وتوفير سبل النجاح وليبقى مغناطيساً للكفاءات من كل حدبٍ وصوب، والتي بدورها تؤمن استمرار تقدمه وازدهاره الذي يجذب مزيداً من الكفاءات وهكذا دواليك .. إنه نظام شديد الإبهار من الخارج، شديد الوحشية من الداخل، لأنه بالأساس يقوم على السرقة والاستغلال .. سرقة الرأسماليين لفضل قيمة عمل العمال .. وسرقة الموارد الطبيعية والبشرية من الدول الأخرى وبدونها لن تقوم له قائمة.
وبسبب كل هذا الإبهار الخارجي للحلم الغربي، كثير من البشر من معظم الدول الأخرى يخوضون الصعاب لبلوغه، ومن هنا وجدنا عدداً لابأس به من السوريين، مثل غيرهم، وأحيانا دونما سبب وجيه، يقررون الهروب من الموت وخوض غمار تجربة بلوغه ولو بطريقة غير شرعية، وعبر امتطاء قوارب الموت واللجوء آلى المهربين ودفع الغالي والرخيص في سبيل ذلك، رغم معرفتهم بمخاطر مثل هذه المغامرة غير مأمونة العواقب، فبلوغ أنهار العسل واللبن في جنة أوربا يستحق ذلك واكثر .. يستحق أن يبيعوا ممتلكاتهم ويغامروا بجنى عمرهم ويجمعوا آلاف الدولارت ليعطوها لتجار البشر مقابل احتمال إيصالهم إلى ضفاف حلمهم .. وهناك سيقبلون ان يعيشوا على فتات إعانات اللجوء وذلها، وسيقبلون أن يقوموا بأي عمل مهما كان لم يكونوا أبدا ليقبلوا القيام به في اوطانهم التي غادروها ..
وإذا ما كان حماس الشباب ورعونته أحياناً يمكن أن يفسرا هذا القرار اللاعقلاني، والحديث هنا عن فئة محددة وليس تعميماً، فإن ثمة أسئلة مشروعة تحتاج إلى إجابات وفهم، فكيف يشجع الأهل أولادهم على خوض هذه المغامرة ويوافقوا على بيع ممتلكاتهم لضمان مستقبل أفضل لابنائهم رغم أنهم بهذه ربما استطاعوا البدء بمشروع صغير يؤمن دخلاً مقبولاً قابلاً للتطوير؟، وكيف يغامر آباء وأمهات بأطفالهم الصغار في رحلة مجنونة تكتنفها الأهوال!؟، وكيف لشباب وصبايا متعلمين وحاصلين على شهادات عليا أن يضللهم ويستغلهم تاجر بشر ومهرب ويقنعهم بإمكانية قارب صغيرمتهالك قطع آلاف الأميال بحمولة أضعاف طاقته ان يصل بهم إلى بر الأمان؟.
وإذا ما كان هذا مفهوماً في ظل المعارك بوصفه طوق نجاة محتمل، إلا انه يغدو أصعب على الفهم بعد توقفها تقريباً ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة، ثمة تفسير وحيد يذهب بنا إلى أن ما عاناه السوريون خلال محنتهم ربما أثر على المحاكمة العقلانية في تفكيرهم وصار الهروب من هذا الجحيم هو سبيل الخلاص الوحيد، في ظل سياسات حكومية تتجاهل معاناتهم وتستمرئ فقدان الأبناء والكفاءات العلمية التي علمتها وبنتها، وحين آن وقت الحصاد والاستثمار تفرط فيها وتقدمها للغرب بلامبالاة اذا أحسنا الظن، والكارثة أن يكون الأمر بكل استهتار أو قصد إذا ما تملينا في الأمر.
وعليه، فقد حان الوقت، بل يكاد يفوت، لاجتراح خطة وطنية عاجلة لرأب هذه الشرايين المفتوحة ووقف نزفها، فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب، وعلى المعنيين اجتراح السبل الكفيلة لإقناع السوريين بأنه على هذي الارض ما يستحق البقاء والحياة، ولايظنن أن من اتخذ قرار البقاء بسعيد أو مقتنع، فبعضهم ما يزال يمتلك بقايا من العقلانية في التفكير، وإن كان لسان حاله يقول: “إذا بقيت بجن وإن تركت بشقى”، فكل مايحيط به يفتقر إلى أدنى قدر من العقلانية.
طبعاً الكلام لا ينطبق على شريحة من السوريين تتنعم بثمار الحرب وتعيش على مص الدماء التي توفر لها حياة أفضل بما لا يقاس من أي مكان آخر في العالم، ووجودها وممارساتها يشكل بحد ذاته سبباً إضافياً للهروب من موت محتم معنوي ومادي إلى موت محتمل لكنه يحمل وعداً، وإن كان ضئيلاً، بالنجاة.
باحثة وأكاديمية سورية – صحيفة الوسط- المقال يعبر عن رأي الكاتب