حدثان يستحقان الوقوف خلال شهر تموز الحالي، ورغم عظمة الأول والسقوط الأخلاقي للثاني، إلا أنهما يمتلكان من المعاني ما يستحق الحديث والتوغل في قراءتهما بشكل عميق لاستخلاص العبر.
الحدث الأول هو ذكرى معركة ميسلون الخالدة (24 تموز 1920م) العزيزة على قلوب السوريين وجميع الشرفاء في العالم، التي قادها القائد السوري (الكردي) الكبير يوسف العظمة رافعاً شعاره الشهير: “إنه ليس من العار أن تدخل جيوش الاستعمار الفرنسي بلادنا، ولكن العار كل العار أن لا تجد من يقاومها..”، هذا الشعار امتلك قدراً كبيراً من الاستشراف إذ إنه أسس لحركة مقاومة شاملة امتدّت لاحقاً في أرجاء سورية كلها، حتى تمّ جلاء آخر جندي من القوات الفرنسية عن الأراضي السورية واللبنانية بعد حوالي ربع قرن على تلك المعركة، فانتهى الانتداب الفرنسي في 17 نيسان1946.
على غير عادتي، وضعت عبارة (سوري كردي) بين قوسين عند الحديث عن يوسف العظمة، أما ما دعاني لذلك فهو الحدث الثاني المرتبط بتموز أيضاً والذي وصفناه بالساقط أخلاقياً، وهو يتعلق بما ترتكبه “الإدارة الذاتية” في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا، من خيانة علنية، حيث تقوم “بجولات على بعض الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا التي قاومها العظمة ورفاقه، للترويج لمشاريعها الانفصالية التي رفضها الشعب السوري بمختلف أطيافه، وذلك استمراراً في التآمر على الوطن والمشاركة في العدوان عليه وقيامها بتحريض ما تبقى من قوى استعمارية للنيل من سيادته وحرية شعبه واستقلاله.”.
إن “الانتداب” الذي خرج مهزوماً من سوريا قبل حوالى ثمانية عقود، يحاول العودة إليها من جديد مستغلاً الأحداث الجارية والإرهاب الذي ضرب سورية، إضافة إلى وجود الاحتلالات الأمريكية والتركية والإسرائيلية..
وهي ليست المرة الأولى التي تطالعنا فيها هذه المجموعات وشبيهاتها في بياناتها وتوصياتها باقتراحات لتقسيم جغرافي أو مشاريع فيدرالية لا يقبلها السوريون، ومحاولة فرض إدارات ذاتية غير شرعية لا يمكن القبول بها، ودعوة الدول الغربية التي مارست العداء ضد الشعب السوري لتبني هذه النظريات والمشاريع الواهية، الأمر الذي يؤكد أن هذه المجموعات الانفصالية وبعض المعارضات الخارجية هو التورط الكامل فيما أعدته وتعده وتهيئ له الدوائر الدولية النافذة من مشاريع وخطط لتجريدنا من كل قدرة على مقاومة وتعطيل مشروع الهيمنة- الإسرائيلية- الغربية على بلاد الشام كل بلاد الشام، مفتاح العالم العربي وصدره وسيفه وترسه وعماده.
مشروع الهيمنة هذا، ليس وليد اللحظة، بل تم الإعداد له منذ أن أطلق هرتزل في مؤتمر بازل عام /1897/ نفير إقامة الدولة اليهودية في فلسطين وهو ما جرى ويجري اليوم إعادة رسمه بعد أن تبين أن إقامة الدولة في فلسطين ومدّها بكل أسباب القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية يواجه في البلاد المقطعة أوصالها مقاومة وصلت بأن تلحق بمشروعهم الهزائم تلو الهزائم.
إن غزوَ العراق وإعلان بوش الإبن مشروع الشرق الأوسط الجديد وما يسمى بالفوضى الخلاقة هو المنطلق لمخطط التفتيت الطائفي والمذهبي والعرقي لبلاد الشام كل بلاد الشام بدمشقها وبغدادها وبيروتها وقدسها وعَمّانها، وهي البلاد التي سجلت وتسجل تماسكاً وتمازجاً في نسيجها الشعبي المتنوع المذاهب والطوائف والأعراق وهو ما تجلى في الثورات المتعاقبة التي تفجرت في بلاد الشام في وجه الاحتلالات والاغتصابات والانتداب لتسجل تأكيداً صارخاً لمعنى وحدة الحياة الجامعة الواحدة الموحدة، وما يفوت بعض أوساط المعارضة أن الاعتداء على سورية اليوم يستكمل فيه مخطط (سايكس- بيكو).
وبعنوان التغيير في بلادنا انطلقت ساعة بدء المشروع، إن الدعوة لإجراء تغيير تمت الاستجابة لها من خلال دستور جديد لتحقيق التعددية والحريات السياسية والعامة، وتعزيز وحدة الحياة في بلادنا وتثبيت الوحدة الإجتماعية وضرورة ترسيخها لنؤسس لمنطلق حياة سياسية جديدة، منطلق وطني ديمقراطي الذي أرتسمت معالمه وثوابته، لذلك يريدون إجهاضه و وأده منذ البداية حين يدفعون إلى طرح إقصاء فئات لضرب الديمقراطية التعددية وبالصميم وباسم الديمقراطية ذاتها وإذكاء الانقسام والفتنة والتمادي بديلاً عن الوئام والتضامن.
إن الداعين للاستقواء الدولي ينسون ويغيبون عن الذاكرة القومية بأن تقسيم بلادنا تم بقرار دولي وأن إقامة دولة الاغتصاب اليهودي تحقق بقرار دولي، وأن غزو العراق والعمل على تفكيكه نُفذ بقرار دولي، وكل الدعوات التي تدعو إلى الاستقواء بالخارج ودعوات الإقصاء ما هي إلا الطريق لضرب الاستقرار والدفع ببلادنا إلى تشكيل الدويلات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، وقد نجحوا في سوق مشيخات عشائرية وقبلية إلى توظيف أموال نفطها وقدراتها ومفاهيمها المذهبية التكفيرية ليلتحق بها رجال من كافة أرجاء العالم الإسلامي ليعيثوا في أرضنا ووسط شعبنا تخريباً وفساداً وتدميراً وقتلاً.
إننا نؤمن بحق المواطن السوري في أن يعارض ويدعو لخطط بديلة وجديدة، أما أن يستقوي بالخارج باسم المعارضة، أو أن يدعو لتقسيم بلادنا تحت ما يسمى بالإدارة الذاتية، ويدعو إلى الحل من خلال استجداء التدخل الدولي، فهو قفز فوق هذه الحقائق معتقدين أن البعد الدولي يشكل مخرجاً، وفاتهم أن البعد الدولي مصدر التآمر علينا باستمرار.
إن الحل الوحيد الذي يوافق عليه السوريون هو الحل الذي يقررونه دون أي تدخل خارجي ويحفظ وحدة سوريا الجغرافية والمجتمعية وقرارها المستقل ويعمل على تحرير كامل الأراضي السورية المحتلة.
أما عن وحدة المجتمع السوري فهي فوق كل اعتبار، ومن غير المسموح ظهور مشاريع قومية واثنية تسعى لضرب هذه الوحدة المتأصلة عبر التاريخ.. مشكلتنا ليس مع الأكراد بل مع يصادرون هذه التسمية لمشاريعهم الانفصالية، فسوريتنا هي التي تجمعنا وعروبتنا الحقيقية هي التي تؤمن العدالة للجميع..
إن البلاد التي أنجبت يوسف العظمة هي ذاتها التي أنجبت الشعب السوري الذي انتصر على الإرهاب، وهو الشعب نفسه الذي سينتصر على أعداء الوطن من عملاء داخليين وأعداء خارجيين.. ونعلنها بصوت واحد للمتآمرين من أغراب وأعراب أن أجدادنا شاهدوا الفاتحين ومشوا على بقاياهم، أما نحن فقرارنا الواحد الموحد هو أن نضع حداً للفتوحات، وأن نمضي في تطهير أرضنا من الاغتصاب والمغتصبين.
..حدثان يستحقان الوقوف في تموز الحالي، لكن شتّان بينهما.. الخلود ليوسف العظمة وكل شهداء الدفاع عن كرامة سوريا وبلاد الشام والعالم العربي، منذ أن انطلقت أول رصاصة مقاومة في ميسلون، حتى هذا اليوم.
بقلم : الأستاذ عبد الله منيني – أمين سر مؤتمر الأحزاب العربية
المصدر : موقع فينيق